كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ هُنَاكَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فِي الشَّفَاعَةِ قَالَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا يَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِثْلُ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ. وَهُوَ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} والشَّفَاعَةُ مَصْدَرُ شَفَعَ شَفَاعَةً. وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى مَحَلِّ الْفِعْلِ تَارَةً. وَيُمَاثِلُهُ الَّذِي يُسَمَّى لَفْظُهُ الْمَفْعُولَ بِهِ تَارَةً كَمَا يُقَالُ: أَعْجَبَنِي دَقُّ الثَّوْبِ وَدَقُّ الْقَصَّارِ. وَذَلِكَ مِثْلُ لَفْظِ الْعِلْمِ يُضَافُ تَارَةً إلَى الْعِلْمِ وَتَارَةً إلَى الْمَعْلُومِ. فَالْأَوَّلُ كَقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وَقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وَقوله: {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: كَقوله: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فَالسَّاعَةُ هُنَا: مَعْلُومَةٌ لَا عَالِمَةً. وَقَوْلِهِ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} قَالَ مُوسَى {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وَمَثَلِ هَذَا كَثِيرٌ. فَالشَّفَاعَةُ مَصْدَرٌ لابد لَهَا مِنْ شَافِعٍ وَمَشْفُوعٍ لَهُ. وَالشَّفَاعَةُ: تَعُمُّ شَفَاعَةَ كُلِّ شَافِعٍ وَكُلُّ شَفَاعَةٍ لِمَشْفُوعِ لَهُ. فَإِذَا قال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} نَفَى النَّوْعَيْنِ: شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ وَالشَّفَاعَةَ لِلْمُذْنِبِينَ. فَقوله: {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ: مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الشُّفَعَاءِ. وَمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَهِيَ تَنْفَعُ الْمَشْفُوعَ لَهُ فَتُخَلِّصُهُ مِنْ الْعَذَابِ. وَتَنْفَعُ الشَّافِعَ فَتُقْبَلُ مِنْهُ وَيُكْرَمُ بِقَبُولِهَا وَيُثَابُ عَلَيْهِ. وَالشَّفَاعَةُ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا لَهُ {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَهَذَا الصِّنْفُ الْمَأْذُونُ لَهُمْ الْمَرْضِيُّ قَوْلَهُمْ: هُمْ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ نَفْعُ الشَّفَاعَةِ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ. فَإِنَّهُ تَارَةً يَشْتَرِطُ فِي الشَّفَاعَةِ إذْنَهُ. كَقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ}. وَتَارَةً يَشْتَرِطُ فِيهَا الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ. كَقوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثُمَّ قال: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وَهُنَا اشْتَرَطَ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَأَنْ يَقُولَ صَوَابًا وَالْمُسْتَثْنَى يَتَنَاوَلُ مَصْدَرَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ: لَا يَنْفَعُ الزَّرْعُ إلَّا فِي وَقْتِهِ. فَهُوَ يَتَنَاوَلُ زَرْعَ الْحَارِثِ وَزَرْعَ الْأَرْضِ لَكِنْ هُنَا قال: {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ هَذَا مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ هَذَا. وَإِنَّمَا قال: {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ كَانَ الْمَعْنَى: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا هَذَا النَّوْعُ فَإِنَّهُمْ تَنْفَعُهُمْ الشَّفَاعَةُ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَنْفَعُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ. وَإِنْ جُعِلَ فِيهِ حَذْفٌ- تَقْدِيرُهُ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ- كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى النَّوْعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ يُضَافُ إلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ شَافِعًا وَإِلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ مَشْفُوعًا لَهُ وَيَكُونُ هَذَا كَقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ مَنْ يُؤْمِنُ. و{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} أَيْ مِثْلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ أَوْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ مَنْعُوقٍ بِهِ أَيْ الَّذِي ينعق بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ. فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ: إيجَازُهُ دُونَ الْإِطْنَابِ فِيهِ.
وَقوله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} إذَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يُحْتَجَّ: أَنَّ الشَّافِعَ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَإِنْ لَمْ يُكْرِمْهُ كَانَ الشَّافِعُ مِمَّنْ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَيُؤْذَنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ. فَيَكُونُ الْإِذْنُ لِلطَّائِفَتَيْنِ وَالنَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ كَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ وَلَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِذْنَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فَالنَّفْعُ أَيْضًا لِلطَّائِفَتَيْنِ. فَالشَّافِعُ يَنْتَفِعُ بِالشَّفَاعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ انْتِفَاعِ الْمَشْفُوعِ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ مَا شَاءَ». وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُكْرِمُ بِهِ اللَّهُ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا. وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَحْمَدُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون. وَعَلَى هَذَا لَا تَحْتَاجُ الْآيَةُ إلَى حَذْفٍ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهَا:
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ شَاةٌ لَهَا يُعَارُ أَوْ رِقَاعٌ تَخْفُقُ فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغَتْك، لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ». فَيَعْلَمُ مِنْ هَذَا: أَنَّ قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} و{لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وَهُوَ كَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشْبِهُ قَوْله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قوله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ: اشْتَرَطَ إذْنَهُ. فَهُنَاكَ ذَكَرَ الْقَوْلَ الصَّوَابَ وَهُنَا ذَكَرَ أَنْ يَرْضَى قَوْلَهُ وَمَنْ قَالَ الصَّوَابَ رَضِيَ اللَّهُ قَوْلَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَرْضَى بِالصَّوَابِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الشَّفَاعَةُ أَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إلَّا بِإِذْنِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} قَالَ: كَلَامًا. هَذَا مِنْ تَفْسِيرِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ- أَوْ أَعْلَمُ- التَّابِعِينَ بِالتَّفْسِيرِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَقَالَ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الشَّفَاعَةَ أَيْضًا.
وَفِي قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لَمْ يَذْكُرْ اسْتِثْنَاءً. فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ خِطَابًا مُطْلَقًا. إذْ الْمَخْلُوقُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُشَارِكُ فِيهِ الْخَالِقُ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} أَنَّ هَذَا عَامٌّ مُطْلَقٌ. فَإِنَّ أَحَدًا- مِمَّنْ يَدَّعِي مِنْ دُونِهِ- لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ شَفَعُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ. وَكَذَلِكَ قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ هُمْ الْكُفَّارُ. لَا يَمْلِكُونَ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قوله: {لَا يَمْلِكُونَ} الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ. أَيْ لَا يَمْلِكُونَ- مِنْ إفْضَالِهِ وَإِكْمَالِهِ- أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِمَعْذِرَةِ وَلَا غَيْرِهَا. وَهَذَا مُبْتَدِعٌ. وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالسَّلَفِ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} وَفِي حَدِيثِ التَّجَلِّي الَّذِي فِي الصَّحِيحِ- لَمَّا ذَكَرَ مُرُورَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ- قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ» فَهَذَا فِي وَقْتِ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ. وَهُوَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ. فَكَيْفَ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ؟.
وَقَدْ طُلِبَتْ الشَّفَاعَةُ مِنْ أَكَابِرِ الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ وَكُلٌّ يَقُولُ «إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي» فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَتَقَدَّمُونَ إلَى مُخَاطَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُتَّقِينَ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ. فَقال: {إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} ثُمَّ قال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّ الرُّوحَ وَالْمَلَائِكَةَ يَقُومُونَ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ. وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَيْ لَا أَقْدِرُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ. وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ: خِطَابُهُ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ. فَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا الْخِطَابَ. فَإِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا. قَالَ تعالى: {إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فَقَدْ أَخْبَرَ الْخَلِيلُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَبِيهِ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} قَالَ: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلًا بِهِ. رَوَاهُ- وَاَلَّذِي قَبْلَهُ- عَبْدُ بْنُ حميد. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَقَالَ صَوَابًا} قَالَ: الصَّوَابُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى: مَنْ أَتَى بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طَه {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فَإِذَا جَعَلْت هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ: فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ. وَهِيَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحَسَنَاتِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّاسَ يَهْتَمُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا؟» فَهَذَا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ» فَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ هَاتَيْنِ الشَّفَاعَتَيْنِ مُخْتَصَّتَانِ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَشْفَعُ غَيْرُهُ فِي الْعُصَاةِ. فَقوله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} يَدْخُلُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ عُمُومًا وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَتِلْكَ: لَمْ يَذْكُرْ الْعَمَلَ. إنَّمَا قال: {وَقَالَ صَوَابًا} وَقال: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} لَكِنْ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الصَّوَابَ الْمَرَضِيَّ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا إلَّا مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكِنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ مَرْضِيٌّ فَقَدْ قال الله: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}.
وَقَدْ ذَكَرَ البغوي وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا فِي قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَوْلَيْنِ. أَحَدَهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الشَّافِعُ. وَمَحَلُّ مَنْ الرَّفْعُ. وَالثَّانِيَ: هُوَ الْمَشْفُوعُ لَهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} آلِهَتَهُمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. فَقال: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بِقُلُوبِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ قتادة.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ الشَّفَاعَةُ لِأَحَدِ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ البغوي {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} هُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. فَإِنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلَهُمْ الشَّفَاعَةُ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَنْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ. وَقِيلَ مَنْ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ. وَأَرَادَ بِاَلَّذِينَ يَدْعُونَ: عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قُلْت: قَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وقتادة مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. رَوَى بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ- عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ- عَنْ مُجَاهِدٍ قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُ: لَا يَشْفَعُ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} يَعْلَمُ الْحَقَّ. هَذَا لَفْظُهُ. جَعَلَ شَفَعَ مُتَعَدِّيًا بِنَفَسِهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ.
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا لَا يَكُونُ مَخْفُوضًا كَمَا قَالَهُ البغوي؛ فَإِنَّ الْحَرْفَ الْخَافِضَ إذَا حُذِفَ انْتَصَبَ الِاسْمُ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا يُقَالُ: شَفَعْته وَشَفَعْت لَهُ كَمَا يُقَالُ: نَصَحْته وَنَصَحْت لَهُ. وشَفَعَ أَيْ صَارَ شَفِيعًا لِلطَّالِبِ. أَيْ لَا يَشْفَعُونَ طَالِبًا وَلَا يُعِينُونَ طَالِبًا {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قتادة {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَعُزَيْرٌ. أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَهُمْ شَفَاعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةٌ. قُلْت: كِلَا الْقَوْلَيْنِ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. لَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ. وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ. وَلَا قَالَ: لَا يَشْفَعُ لِأَحَدِ بَلْ قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} وَكُلُّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ. وَالشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْبَدْ كَمَا عُبِدَ الْمَسِيحُ. وَهُوَ- مَعَ هَذَا- لَهُ شَفَاعَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. فَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَثْبُتَ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِ اللَّهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُدْعَ.